فصل: تفسير الآيات رقم (10- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه‏}‏ تكذيب للنصارى وتنزيه لله تعالى عما بهتوه‏.‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ تبكيت لهم، فإن من إذا أراد شيئاً أوجده ب ‏{‏كُن‏}‏ كان منزهاً عن شبه الخلق إلى الحاجة في اتخاذ الولد بإحبال الإِناث، وقرأ ابن عامر ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بالنصب على الجواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ الله رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ سبق تفسيره في سورة «آل عمران»، وقرأ الحجازيان والبصريان ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بالفتح على ولأن وقيل إنه معطوف على ‏{‏الصلاة‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ اليهود والنصارى‏.‏ أو فرق النصارى، النسطورية قالوا إنه ابن الله، ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه‏.‏ ‏{‏فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه، وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق، أو من وقت الشهادة أو من مكانها‏.‏ وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ تعجب معناه أن أسمَاعهم وأبصارهم‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صماً عمياً في الدنيا، أو التهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ‏.‏ وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه، والجار والمجرور على الأول في موضع الرفع وعلى الثاني في موضع النصب ‏{‏لكن الظالمون اليوم فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أوقع الظالمون موقع الضمير إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم، وسجل على إغفالهم بأنه ضلال بين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة‏}‏ يوم يتحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه‏.‏ ‏{‏إِذْ قُضِىَ الأمر‏}‏ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار، وإذ بدل من اليوم أو ظرف ل ‏{‏لحسرة‏}‏‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ حال متعلقة بقوله ‏{‏فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ وما بينهما اعتراض، أو ب ‏{‏أَنْذِرْهُمْ‏}‏ أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين، فتكون حالاً متضمنة للتعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا‏}‏ لا يبقى غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك، أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإِفناء والإِهلاك توفي الوارث لإِرثه‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ يردون للجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً‏}‏ ملازماً للصدق، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله‏.‏ ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ استنبأه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ بدل من ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ وما بينهما اعتراض، أو متعلق ب ‏{‏كَانَ‏}‏ أو ب ‏{‏صِدّيقاً نَّبِيّاً‏}‏‏.‏ ‏{‏لأَبِيهِ ياأبت‏}‏ التاء معوضة من ياء الإِضافة ولذلك لا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا، وإنما تذكر للاستعطاف ولذلك كررها‏.‏ ‏{‏لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ‏}‏ فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً‏}‏ في جلب نفع أو دفع ضر، دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب، حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي غاية التعظيم، ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإِنعام العام وهو الخالق الرازق المحيي المميت المعاقب المثيب، ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح، والشيء لو كان حياً مميزاً سميعاً بصيراً مقتدراً على النفع والضر ولكن كان ممكناً، لاستنكف العقل القويم من عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم والصراط المستقيم لما لم يكن محظوظاً من العلم الإِلهي مستقلاً بالنظر السوي فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ياأبت إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ ولم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق، ثم ثبطه عما كان عليه بأنه مع خلوه عن النفع مستلزم للضر، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به فقال‏:‏

‏{‏ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان‏}‏ ولما استهجن ذلك بين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولي للنعم كلها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً‏}‏ ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجر إليه فقال‏:‏

‏{‏ياأبت إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً‏}‏ قريناً في اللعن والعذاب تليه ويليك، أو ثابتاً في موالاته فإنه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب‏.‏ وذكر الخوف والمس وتنكير العذاب إما للمجاملة أو لخفاء العاقبة، ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من بين جناياته لإِرتقاء همته في الربانية، أو لأنه ملاكها أو لأنه من حيث إنه نتيجة معاداته لآدم وذريته منبه عليها‏.‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم‏}‏ قابل استعطافه ولطفه في الارشاد بالفظاظة وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل ‏{‏يَا أبَتِ‏}‏‏:‏ بيا بني، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإِنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب، كأنها مما لا يرغب عنه عاقل ثم هدده فقال‏:‏ ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهِ‏}‏ عن مقالك فيها أو الرغبة عنها‏.‏ ‏{‏لأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت، أو تبعد مني‏.‏ ‏{‏واهجرنى‏}‏ عطف على ما دل عليه ‏{‏لأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ أي فاحذرني واهجرني‏.‏ ‏{‏مَلِيّاً‏}‏ زماناً طويلاً من الملاوة أو ملياً بالذهاب عني‏.‏

‏{‏قَالَ سلام عَلَيْكَ‏}‏ توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة، أي لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعد ما يؤذيك ولكن‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِِّي‏}‏ لعله يوفقك للتوبة والإِيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر إستدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وقد مر تقريره في سورة التوبة ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً‏}‏ بليغاً في البر والإِلطاف‏.‏

‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ بالمهاجرة بديني‏.‏ ‏{‏وَأَدْعُو رَبِّى‏}‏ وأعبده وحده‏.‏ ‏{‏عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّى شَقِيّا‏}‏ خائباً ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتم، وفي تصدير الكلام ب ‏{‏عَسَى‏}‏ التواضع وهضم النفس، والتنبيه على أن الإِجابة والإِثابة تفضل غير واجبتين، وأن ملاك الأمر خاتمته وهو غيب‏.‏

‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ بالهجرة إلى الشام‏.‏ ‏{‏وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ بدل من فارقهم من الكفرة، قيل إنه لما قصد الشام أتى أولاً حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد منه يعقوب، ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسمعيل بفضله على الانفراد‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ وكلا منهما أو منهم‏.‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّنْ رَّحْمَتِنَا‏}‏ النبوة والأموال والأولاد‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً‏}‏ يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم، استجابة لدعوته ‏{‏واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخرين‏}‏ والمراد باللسان ما يوجد به، ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحول الدول وتبدل الملل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً‏}‏ موحداً أخلص عبادته عن الشرك والرياء، أو أسلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه، وقرأ الكوفيون بالفتح على أن الله أخلصه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم ‏{‏رَسُولاً‏}‏ مع أنه أخلص وأعلى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن‏}‏ من ناحيته اليمنى من اليمين، وهي التي تلي يمين موسى من جانبه الميمون من اليمن بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة‏.‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ‏}‏ تقريب تشريف شبهه بمن قربه الملك لمناجاته‏.‏ ‏{‏نَجِيّاً‏}‏ مناجياً حال من أحد الضميرين‏.‏ وقيل مرتفعاً من النجوة وهو الارتفاع‏.‏ لما روي أنه رفع فوق السموات حتى سمع صرير القلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا‏}‏ من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا‏.‏ ‏{‏أَخَاهُ‏}‏ معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته ‏{‏واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى‏}‏ فإنه كان أسن من موسى، وهو مفعول أو بدل على تقدير أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض‏.‏ ‏{‏هارون‏}‏ عطف بيان له‏.‏ ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ حال منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد‏}‏ ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره، وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ فوفى‏.‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة‏}‏ اشتغالاً بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل، قال الله تعالى ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ ‏{‏قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً‏}‏ وقيل أهله أمته فإن الأنبياء آباء الأمم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً‏}‏ لاستقامة أقواله وأفعاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ‏}‏ وهو سبط شيث وجد أبي نوح عليهم الصلاة والسلام، واسمه أخنوخ واشتقاق إدريس من الدرس يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلقب به لكثرة درسه، إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ يعني شرف النبوة والزلفى عند الله‏.‏ وقيل الجنة‏.‏ وقيل السماء السادسة أو الرابعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ بأنواع النعم الدينية والدنيوية ‏{‏مِنَ النبيين‏}‏ بيان للموصول‏.‏ ‏{‏مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ‏}‏ بدل منه بإعادة الجار، ويجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية‏.‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ أي ومن ذرية من حملنا خصوصاً، وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح‏.‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم‏}‏ الباقون‏.‏ ‏{‏وإسراءيل‏}‏ عطف على ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي ومن ذرية إسرائيل، وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية‏.‏ ‏{‏وَمِمَّنْ هَدَيْنَا‏}‏ ومن جملة من هديناهم إلى الحق‏.‏ ‏{‏واجتبينا‏}‏ للنبوة والكرامة‏.‏ ‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيًّا‏}‏ خبر ل ‏{‏أولئك‏}‏ إن جعلت الموصول صفته، واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى‏.‏ وعن النبي الصلاة والسلام ‏"‏ اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا ‏"‏ والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد‏.‏ وقرئ «يتلى» بالياء لأن التأنيث غير حقيقي، وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏بِكياً‏}‏ بكسر الباء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح، وخلف سوء بالسكون‏.‏ ‏{‏أَضَاعُواْ الصلاة‏}‏ تركوها أو أخروها عن وقتها‏.‏ ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في المعاصي‏.‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏‏.‏ من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً‏}‏ شراً كقوله‏:‏

فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمِد النَاس أَمْرَه *** وَمَنْ يَغْو لاَ يعْدَمْ عَلَى الغَيِّ لاَئِماً

أو جزاء غي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَاماً‏}‏ أو غياً عن طريق الجنة، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ يدل على أن الآي في الكفرة‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب على البناء للمفعول من أدخل‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً‏}‏ ولا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم، ويجوز أن ينتصب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ على المصدر، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها، أو منصوب على المدح، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعدن لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإِقامة كبرة ولذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله‏:‏ ‏{‏التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب‏}‏ أي وعدها إياهم وهي غائبة عنهم، أو وهم غائبون عنها، أو وعدهم بإيمانهم بالغيب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الله‏.‏ ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ‏}‏ الذي هو الجنة‏.‏ ‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة، وقيل هو من أتى إليه إحساناً أي مفعولاً منجزاً‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ فضول كلام‏.‏ ‏{‏إِلاَّ سلاما‏}‏ ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة، أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض على الاستثناء المنقطع، أو على أن معنى التسليم إن كان لغواً فلا يسمعون لغواً سواه كقوله‏:‏

وَلاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكتَائِبِ

أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدته الإِكرام‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة، وقيل المراد دوام الرزق ودروره‏.‏

‏{‏تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً‏}‏ نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه، والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع، ولا تبطل برد ولا إسقاط‏.‏ وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم، وعن يعقوب «نورث» بالتشديد‏.‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ‏}‏ حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه بأبطأ عليه خمسة عشر يوماً، وقيل أربعين يوماً حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه، ثم نزل ببيان ذلك‏.‏ والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى وما ننزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وقرئ «وما يتنزل» بالياء والضمير للوحي‏.‏ ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ تاركاً لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه‏.‏

وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسياً لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها وقوله‏:‏

‏{‏رَبُّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ بيان لامتناع النسيان عليه، وهو خبر محذوف أو بدل من ‏{‏ربك‏}‏ ‏{‏فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ‏}‏ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مرتب عليه، أي لما عرفت ربك لأنه لا ينبغي له أن ينساك، أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفر، وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب‏:‏ اصطبر لقرنك‏.‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ مثلاً يستحق أن يسمى إلهاً أو أحداً سمي الله فإن المشتركين وإن سموا الصنم إلهاً لم يسموه الله قط، وذلك لظهور أحديته تعالى، وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة، وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الإنسان‏}‏ المراد به الجنس بأسره فإن المقول مقول فيما بينهم وإن لم يقله كلهم كقولك‏:‏ بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحد منهم، أو بعضهم المعهود وهم الكفرة أو أبي بن خلف فإنه أخذ عظاماً بالية ففتها وقال‏:‏ يزعم محمد أننا نبعث بعدما نموت‏.‏ ‏{‏أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ من الأرض أو من حال الموت، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإِنكار لأن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة، وانتصابه بفعل دل عليه أخرج لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها، وهي ها هنا مخلصة للتوكيد مجردة عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام في يا ألله للتعويض فساغ اقترانها بحرف الاستقبال‏.‏ وروي عن ابن ذكوان إذا ما مت بهمزة واحدة مكسورة على الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان‏}‏ عطف على ‏{‏يقول‏}‏، وتوسيط همزة الإِنكار بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمهما للدلالة على أن المنكر بالذات هو المعطوف وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه فإنه لو تذكر وتأمل‏:‏ ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ بل كان عَدَماً صرفاً، لم يقل ذلك فإن أعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وقالون عن يعقوب ‏{‏يذكر‏}‏ من الذكر الذي يراد به التفكر، وقرئ «يتذكر» على الأصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ أقسم باسمه تعالى مضافاً إلى نبيه تحقيقاً للأمر وتفخيماً لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والشياطين‏}‏ عطف أو مفعول معه لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم كل مع شيطانه في سلسلة، وهذا وإن كان مخصوصاً بهم ساغ نسبته إلى الجنس بأسره، فإنهم إذا حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا جميعاً معهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ‏}‏ ليرى السعداء ما نجاهم الله منه فيزدادوا غبطة وسروراً، وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم عليهم ‏{‏جِثِيّاً‏}‏ على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع، أو لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، وأهل الموقف جاثون لقوله تعالى ‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ على المعتاد في مواقف التقاول، وإن كان المراد بالإِنسان الكفرة فلعلهم يساقون جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنم إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما عراهم من الشدة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏جِثِيّاً‏}‏ بكسر الجيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ‏}‏ من كل أمة شاعت ديناً‏.‏ ‏{‏أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً‏}‏ من كان أعصى وأعتى منهم فنطرحهم فيها، وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو كثيراً من أهل العصيان ولو خص ذلك بالكفرة فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب، أو يدخل كلا طبقتها التي تليق به، و‏{‏أَيُّهُم‏}‏ مبني على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات، لكنه أعرب حملاً على ‏{‏كل‏}‏ وبعض للزوم الإِضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه منصوب المحل بننزعن، ولذلك قرئ منصوباً ومرفوع عند غيره إما بالإِبتداء على أنه استفهامي وخبره ‏{‏أشد‏}‏، والجملة محكية وتقدير الكلام‏:‏ ‏{‏لَنَنزِعَنَّ‏}‏ من كل شيعة الذين يقال فيهم أيهم أشد، أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم، أو مستأنفة والفعل واقع على ‏{‏مِن كُلّ شِيعَةٍ‏}‏ على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة، وإما بشيعة لأنها بمعنى تشيع وعلى للبيان أو متعلق بافعل وكذا الباء في قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بالصلي، أو صليهم أولى بالنار‏.‏ وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتياً رؤساء الشيع فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏صِلِيّاً‏}‏ بكسر الصاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مِّنكُمْ‏}‏ وما منكم التفات إلى الإِنسان ويؤيده أنه قرئ ‏{‏وَإِن منهم‏}‏‏.‏ ‏{‏إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ إلا واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم‏.‏ وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سئل عنه فقال‏:‏ «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض‏:‏ أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم‏:‏ قد وردتموها وهي خامدة»‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ فالمراد عن عذابها‏.‏ وقيل ورودها الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها‏.‏ ‏{‏كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً‏}‏ كان ورودهم واجباً أوجبه الله على نفسه وقضى به بأن وعد به وعداً لا يمكن خلفه‏.‏ وقيل أقسم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّى الذين اتقوا‏}‏ فيساقون إلى الجنة وقرأ الكسائي ويعقوب ننجي بالتخفيف، وقرئ ثم بفتح الثاء أي هناك‏.‏ ‏{‏وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ منهاراً بهم كما كانوا، وهو دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وإن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد تجاثيهم، وتبقى الفجرة فيها منهاراً بهم على هيئاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ‏}‏ مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم وواضحات الإِعجاز‏.‏ ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ لأجلهم أو معهم‏.‏ ‏{‏أَيُّ الفريقين‏}‏ المؤمنين والكافرين‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ موضع قيام أو مكاناً‏.‏ وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل‏.‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ مجلساً ومجتمعاً والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى، لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا فرد عليهم ذلك أيضاً مع التهديد نقضاً بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً‏}‏ و‏{‏كَمْ‏}‏ مفعول ‏{‏أَهْلَكْنَا‏}‏ و‏{‏مّن قَرْنٍ‏}‏ بيانه، وإنما سمي أهل كل عصر قرناً أي مقدماً من قرن الدابة‏.‏ وهو مقدمها لأنه يتقدم من بعده، وهم أحسن صفة لكم وأثاثاً تمييز عن النسبة وهو متاع البيت‏.‏ وقيل هو ما جد منه والخرثي ما رث والرئي المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن والخبز، وقرأ نافع وابن عامر «ريا» على قلب الهمزة وإدغامها أو على أنه من الري الذي هو النعمة، وقرأ أبو بكر «رييا» على القلب، وقرئ «ريا» بحذف الهمزة و«زيا» من الزي وهو الجمع فإنه محاسن مجموعة، ثم بين أن تمتيعهم استدراج وليس بإكرام وإنما العيار على الفضل والنقص ما يكون في الآخرة بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏ فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به، وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذاناً بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجاً وقطعاً لمعاذيره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ وكقوله ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ غاية المد‏.‏ وقيل غاية قول الذين كفروا للذين آمنوا أي قالوا أي الفريقين حتى إذا رأوا ما يوعدون‏.‏ ‏{‏إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة‏}‏ تفصيل للموعود فإنه إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال‏.‏ ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ من الفريقين بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدروه وعاد ما متعوا به خذلاناً ووبالاً عليهم، وهو جواب الشرط والجملة محكية بعد ‏{‏حتى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأَضْعَفُ جُنْداً‏}‏ أي فئة وأنصاراً قابل به أحسن ندياً من حيث إن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 80‏]‏

‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى‏}‏ عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله عز وجل أراد به ما هو خير له وعوضه منه، وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد الله في ضلاله ويزيد المقابل له هداية‏.‏ ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد، ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا‏}‏ عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَخَيْرٌ مَّرَدّاً‏}‏ والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء، أي أبلغ في حره منه في برده‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ نزلت في العاص بن وائل كان لخباب عليه مال فتقاضاه فقال له‏:‏ لا حتى تكفر بمحمد فقال‏:‏ لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث، قال فإذا بعثت جئتني فيكون لي ثم مال وولد فأعطيك‏.‏ ولما كانت الرؤية أقوى سند الإِخبار استعمل أرأيت بمعنى الإِخبار، والفاء أصلها في التعقيب والمعنى‏:‏ أخبر بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «ولداً» وهو جمع ولد كأسد في أسد أو لغة فيه كالعرب والعرب‏.‏

‏{‏أَطَّلَعَ الغيب‏}‏ أقد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وتألى عليه‏.‏ ‏{‏أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ أو اتخذ من عالم الغيب عهداً بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين‏.‏ وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد عليه‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه‏.‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ‏}‏ سنظهر له أنا كتبنا قوله على طريقة قوله‏:‏

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** أي تبين أني لم تلدني لئيمة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو وحفظها عليه فإن نفس الكتابة لا تتأخر عن القول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏{‏وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً‏}‏ ونطول له من العذاب ما يستأهله، أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه واستهزائه على الله جلت عظمته، ولذلك أكده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه‏.‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ‏}‏ بموته‏.‏ ‏{‏مَا يَقُولُ‏}‏ يعني المال والولد‏.‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا‏}‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَرْداً‏}‏ لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثم زائداً وقيل ‏{‏فَرْداً‏}‏ رافضاً لهذا القول منفرداً عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً‏}‏ ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم وصلة إلى الله وشفعاء عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وإنكار لتعززهم بها‏.‏ ‏{‏سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم‏}‏ ستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا‏}‏ أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز، أي ويكونون عليهم ذلاً، أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم، أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم، فإنهم بذلك كالشيء الواحد ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ‏{‏وهم يد على من سواهم‏}‏ وقرئ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بالتنوين على قلب الألف نوناً في الوقف قلب ألف الإِطلاق في قوله‏:‏

أَقِلي اللَّوْمَ عَاذِلُ وَالعِتَابَنْ *** أو على معنى كل هذا الرأي كلا وكلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون ‏{‏كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين‏}‏ بأن سلطناهم عليهم أو قيضنا لهم قرناء‏.‏ ‏{‏تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏ تهزهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاويل الكفرة وتماديهم في الغي وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ‏}‏ بأن يهلكوا حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ‏}‏ أيام آجالهم‏.‏ ‏{‏عَدّاً‏}‏ والمعنى لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين‏}‏ نجمعهم‏.‏ ‏{‏إِلَى الرحمن‏}‏ إلى ربهم الذي غمرهم برحمته، ولاختبار هذا الاسم في هذه السورة شأن ولعله لأن مساق هذا الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها ‏{‏وَفْداً‏}‏ وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَسُوقُ المجرمين‏}‏ كما تساق البهائم‏.‏ ‏{‏إلى جَهَنَّمَ وِرْداً‏}‏ عطاشاً فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، أو كالدواب التي ترد الماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة‏}‏ الضمير فيها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وهو الناصب لليوم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الإِيمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى، أو إلا من اتخذ من الله إذناً فيها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ من قولهم‏:‏ عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به، ومحله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ، أو على الاستثناء‏.‏ وقيل الضمير للمجرمين والمعنى‏:‏ لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً يستعد به أن يشفع له بالإِسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ الضمير يحتمل الوجهين لأن هذا لما كان مقولاً فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ على الالتفات للمبالغة في الذم والتسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى، والإِد بالفتح والكسر العظيم المنكر والإِدة الشدة وأدنى الأمر، وآدنى أثقلني وعظم عليَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏تَكَادُ السموات‏}‏ وقرأ نافع والكسائي بالياء‏.‏ ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ يتشققن مرة بعد أخرى، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب «ينفطرن»، والأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف‏.‏ ‏{‏وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ تهد هداً أو مهدودة، أو لأنها تهد أي تكسر وهو تقرير لكونه أدا، والمعنى، أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفتت من شدتها، أو أن فظاعتها مجلبة لغضب الله بحيث لولا حلمه لخرب العالم وبدد قوائمه غضباً على من تفوه بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 98‏]‏

‏{‏أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً‏}‏ يحتمل النصب على العلة ل ‏{‏تَكَادُ‏}‏ أو ل ‏{‏هَدّاً‏}‏ على حذف اللام وإفضاء الفعل إليه، والجر بإضمار اللام أو بالإِبدال من الهاء في منه والرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك ‏{‏أَن دَعَوْا‏}‏، أو فاعل ‏{‏هَدّاً‏}‏ أي هدها دعاء الولد للرحمن وهو من دعا بمعنى سمي المتعدي إلى مفعولين، وإنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولداً، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه‏.‏

‏{‏وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ ولا يليق به اتخاذ الولد ولا يتطلب له لو طلب مثلاًى لأنه مستحيل، ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإِشعار بأن كل ما عداه نعمة ومنعم عليه فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلها ومولي أصولها وفروعها، فكيف يمكن أن يتخذه ولداً ثم صرح به في قوله‏:‏

‏{‏إِنْ كُلُّ مَنْ فِى السموات والارض‏}‏ أي ما منهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً‏}‏ إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد، وقرئ ‏{‏آتِ الرحمن‏}‏ على الأصل‏.‏

‏{‏لَّقَدْ أحصاهم‏}‏ حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه وقبضة قدرته‏.‏ ‏{‏وَعَدَّهُمْ عَدّاً‏}‏ عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار‏.‏

‏{‏وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً‏}‏ منفرداً عن الاتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولداً ولا يناسبه ليشرك به‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أحب الله عبداً يقول لجبريل أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم توضع له المحبة في الأرض» والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام، أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ‏}‏ بلغتك، والباء بمعنى على أو على أصله لتضمن ‏{‏يسرناه‏}‏ معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك‏.‏ ‏{‏لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين‏}‏ الصائرين إلى التقوى‏.‏ ‏{‏وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً‏}‏ أشداء الخصومة آخذين في كل لديد، أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به وأنذر‏.‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ‏}‏ تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى الله عليه وسلم على إنذارهم‏.‏ ‏{‏هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ‏}‏ هل تشعر بأحد منهم وتراه‏.‏ ‏{‏أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً‏}‏ وقرئ ‏{‏تسمع‏}‏ من أسمعت والركز الصوت الخفي، وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض، والركاز المال المدفون‏.‏ عن رسول الله «من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله»‏.‏

سورة طه

مكية وهي مائة وأربع وثلاثون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏طه‏}‏ فخمها قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل، وفخم الطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه وأمالهما الباقون‏.‏ وهما من أسماء الحروف‏.‏ وقيل معناه يا رجل على لغة عك، فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار والاستشهاد بقوله‏:‏

إِنَّ السفاهَةَ طَاهَا في خَلائِقِكُمْ *** لاَ قَدَّسَ الله أَخْلاقَ المَلاَعِين

ضعيف لجواز أن يكون قسماً كقوله حم لا ينصرون، وقرئ ‏{‏طه‏}‏ على أنه أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه، فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ الفاً كقوله‏:‏ لا هناك المرتع‏.‏ ثم بني عليه الأمر وضم إليه هاء السكت وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل ‏{‏طه‏}‏ طأها والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية الأرض، لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف وكذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏ خبر ‏{‏طه‏}‏ إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، أو ‏{‏القرءان‏}‏ والقرآن فيه واقع موقع العائد وجوابه إن جعلته مقسماً به ومنادى له إن جعلته نداء، واستئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية والمعنى‏:‏ ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ، أو بكثرة الرياضة وكثرة التهجد والقيام على ساق‏.‏ والشقاء شائع بمعنى التعب ومنه أشقى من رائض المهر، وسيد القوم أشقاهم‏.‏ ولعله عدل إليه للإِشعار بأنه أنزل عليه ليسعد‏.‏ وقيل رد وتكذيب للكفرة، فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ تَذْكِرَةً‏}‏ لكن تذكيراً، وانتصابها على الاستثناء المنقطع، ولا يجوز أن يكون بدلاً من محل ‏{‏لتشقى‏}‏ لاختلاف الجنسين ولا مفعولاً له ل ‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين‏.‏ وقيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن، أو مفعول له على أن ‏{‏لتشقى‏}‏ متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة‏.‏ ‏{‏لِّمَن يخشى‏}‏ لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإِنذار، أو لمن علم الله منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏تَنْزِيلاً‏}‏ نصب بإضمار فعله أو ب ‏{‏يخشى‏}‏، أو على المدح أو البدل من ‏{‏تذكرة‏}‏ إن جعل حالاً، وإن جعل مفعولاً له لفظاً أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه ولا بنوعه‏.‏ ‏{‏مِّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات العلى‏}‏ مع ما بعده إلى قوله ‏{‏لَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل، فبدأ بخلق الأرض والسموات التي هي أصول العالم، وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى، وهو جمع العليا تأنيث الأعلى، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى‏}‏ ليدل بذلك على كمال قدرته وإرادته، ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏ أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه، وهو ضمير النفس‏.‏ وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيما ليس لإِعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار، ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها والمتوحد بمقتضاها فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ ومن في ‏{‏مِّمَّنْ خَلَق الأرض‏}‏ صلة ل ‏{‏تَنْزِيلاً‏}‏ أو صفة ‏{‏لَهُ‏}‏، والانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإِكرام والتنبيه على أنه واجب الإِيمان به والانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه، ويجوز أن يكون أنزلناه حكاية كلام جبريل والملائكة النازلين معه‏.‏ وقرئ ‏{‏الرحمن‏}‏ على الجر صفة لمن خلق فيكون ‏{‏عَلَى العرش استوى‏}‏ خبر محذوف، وكذا إن رفع ‏{‏الرحمن‏}‏ على المدح دون الإِبتداء، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، والثرى الطبقة الترابية من الأرض وهي آخر طبقاتها، و‏{‏الحسنى‏}‏ تأنيث الأحسن، وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ قفى تمهيد نبوته صلى الله عليه وسلم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 20‏]‏

‏{‏إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ رَأَى نَاراً‏}‏ ظرف لل ‏{‏حَدِيثُ‏}‏ لأنه حدث أو مفعول لأذكر‏.‏ قيل إنه استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذا رأى من جانب الطور ناراً‏.‏ ‏{‏فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا‏}‏ أقيموا مكانكم‏.‏ وقرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا»، وفي «القصص» بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها‏.‏ ‏{‏إِنّى آنَسْتُ نَاراً‏}‏ أبصرتها إبصاراً لا شبهة فيه، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به‏.‏ ‏{‏لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ‏}‏ بشعلة من النار وقيل جمرة‏.‏ ‏{‏أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى‏}‏ هادياً يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم‏.‏ ولما كان حصولهما مترتباً بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس، فإنه كان محققاً ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه، ومعنى الاستعلاء في ‏{‏عَلَى النار‏}‏ أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في‏:‏ مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أتاها‏}‏ أي النار وجد ناراً بيضاء تتقد في شجرة خضراء‏.‏ ‏{‏نُودِىَ ياموسى‏}‏‏.‏

‏{‏إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏ فتحه ابن كثير وأبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق‏.‏ قيل إنه لما نودي قال‏:‏ من المتكلم قال‏:‏ إني أنا الله، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال‏:‏ أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء‏.‏ وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى من ربه كلامه تلقياً روحانياً، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة‏.‏ ‏{‏فاخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين‏.‏ وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ‏.‏ وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ بالواد المقدس‏}‏ تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين‏.‏ ‏{‏طُوًى‏}‏ عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان‏.‏ وقيل هو كثني من الطي مصدر ل ‏{‏نُودِىَ‏}‏ أو ‏{‏المقدس‏}‏ أي‏:‏ نودي نداءين أو قدس مرتين‏.‏

‏{‏وَأَنَا اخترتك‏}‏ اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة «وإنا اخترناك»‏.‏ ‏{‏فاستمع لِمَا يُوحَى‏}‏ للذي يوحى إليك، أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين‏.‏

‏{‏إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى‏}‏ بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل‏.‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي‏}‏ خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره‏.‏

وقيل ‏{‏لِذِكْرِى‏}‏ لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو ‏{‏لِذِكْرِى‏}‏ خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري‏.‏ وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي‏.‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري ‏"‏ ‏{‏إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ‏}‏ كائنة لا محالة‏.‏ ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولولا ما في الأخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره‏.‏ ‏{‏لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى‏}‏ متعلق ب ‏{‏ءَاتِيَةٌ‏}‏ أو ب ‏{‏أُخْفِيهَا‏}‏ على المعنى الأخير‏.‏

‏{‏فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا‏}‏ عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة‏.‏ ‏{‏مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا‏}‏ نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها، والمراد نهيه أن يصد عنها كقولهم‏:‏ لا أرينك ها هنا، تنبيهاً على أَن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها، وأنه ينبغي أن يكون راسخاً في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه‏.‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها‏.‏ ‏{‏فتردى‏}‏ فتهلك بالانصداد بصده‏.‏

‏{‏وَمَا تِلْكَ‏}‏ استفهام يتضمن استيقاظاً لما يريه فيها من العجائب‏.‏ ‏{‏بِيَمِينِكَ‏}‏ حال من معنى الإِشارة، وقيل صلة ‏{‏تِلْكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏يَا موسى‏}‏ تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه‏.‏

‏{‏قَالَ هِىَ عَصَايَ‏}‏ وقرئ «عصي» على لغة هذيل‏.‏ ‏{‏أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا‏}‏ أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع‏.‏ ‏{‏وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى‏}‏ وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي، وقرئ ‏{‏أهش‏}‏ وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجراً لها‏.‏ ‏{‏وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى‏}‏ حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاء وصله بها، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، وتصيران دلواً عند الاستقاء، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو، وينبع الماء بركزها، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلاً ومجملاً على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه‏.‏

‏{‏قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جاناً تارة نظراً إلى المبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين‏.‏ وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال ‏{‏كَأَنَّهَا جَآنٌّ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ‏}‏ فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها‏.‏ ‏{‏سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى‏}‏ هيئتها وحالتها المتقدمة، وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل‏.‏ قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏ إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران‏.‏ ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاءَ‏}‏ كأنها مشعة‏.‏ ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ من غير عاهة وقبح، كني به عن البرص كما كنى بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه‏.‏ ‏{‏ءَايَةً أخرى‏}‏ معجزة ثانية وهي حال من ضمير ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاءَ‏}‏ أو من ضميرها، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى‏}‏ متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة التي دللنا بها، أو فعلنا ذلك ‏{‏لِنُرِيَكَ‏}‏ و‏{‏الكبرى‏}‏ صفة ‏{‏ءاياتنا‏}‏ أو مفعول «نريك» و‏{‏مِنْ ءاياتنا‏}‏ حال منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ عصى وتكبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اشرح لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى‏}‏ لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه، والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع، وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولاً، ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيداً ومبالغة‏.‏

‏{‏واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏ فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه، وذلك أن فرعون حمله يوماً فأخذ بلحيته ونتفها، فغضب وأمر بقتله فقالت آسية‏:‏ إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه‏.‏ ولعل تبييض يده كان لذلك‏.‏ وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه‏.‏ واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏ ومن لم يقل احتج بقوله ‏{‏هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً‏}‏ وقوله ‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقاً بل عقدة تمنع الإِفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة وأن يكون صلة احلل‏.‏

‏{‏واجعل لِّّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هارون أَخِى‏}‏ يعينني على ما كلفتني به، واشتقاق الوزير إما من الوزير لأنه يحمل الثقل عن أميره، أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره، ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واواً كقلبها في موازر‏.‏ ومفعولاً اجعل وزيراً، و‏{‏هارون‏}‏ قدم ثانيهما للعناية به و‏{‏لِى‏}‏ صلة أو حال أو ‏{‏لّى وَزِيراً‏}‏ و‏{‏هارون‏}‏ عطف بيان للوزير، أو ‏{‏وَزِيراً مّنْ أَهْلِى‏}‏ و‏{‏لِى‏}‏ تبيين كقوله ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏‏.‏ و‏{‏أَخِى‏}‏ على الوجوه بدل من ‏{‏هارون‏}‏ أو مبتدأ خبره‏.‏

‏{‏اشدد بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى‏}‏ على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر‏.‏

‏{‏كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً‏}‏ فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده‏.‏

‏{‏إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏ عالماً بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا، وأن هرون نعم المعين لي فيما أمرتني به‏.‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏ أي مسؤولك، فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى‏}‏ أي أنعمنا عليك في وقت آخر‏.‏

‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ‏}‏ بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك لا على وجه النبوة كما أوحي إلى مريم‏.‏

‏{‏مَا يوحى‏}‏ ما لا يعلم إلا بالوحي، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به‏.‏

‏{‏أَنِ اقذفيه فِى التابوت‏}‏ بأن اقذفيه، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول‏.‏ ‏{‏فاقذفيه فِى اليم‏}‏ والقذف يقال للإِلقاء وللوضع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ وكذلك الرمي كقوله‏:‏

غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ يَافِعاً *** ‏{‏فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل‏}‏ لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمراً واجب الحصول لتعلق الإِرادة به، وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض‏.‏ ‏{‏يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ‏}‏ جواب ‏{‏فَلْيُلْقِهِ‏}‏ وتكرير ‏{‏عَدُوٌّ‏}‏ للمبالغة، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع‏.‏ قيل إنها جعلت في التابوت قطناً ووضعته فيه ثم قبرته وألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالساً على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجهاً فأحبه حباً شديداً كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى‏}‏ أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون، ويجوز أن يتعلق ‏{‏مِنّي‏}‏ ب ‏{‏ألقيت‏}‏ أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره‏.‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى‏}‏ لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك‏.‏ وقرئ ‏{‏وَلِتُصْنَعْ‏}‏ بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر ‏{‏وَلِتُصْنَعَ‏}‏ بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري‏.‏

‏{‏إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ‏}‏ ظرف ل ‏{‏ألقيت‏}‏ أو ‏{‏لتصنع‏}‏ أو بدل من ‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا‏}‏ على أن المراد بها وقت متسع‏.‏ ‏{‏فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ‏}‏ وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ‏}‏ فجاءت بأمه فقبل ثديها‏.‏ ‏{‏فرجعناك إلى أُمِّكَ‏}‏ وفاء بقولنا ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ ‏{‏كَى تَقَرَّ عَيْنُها‏}‏ بلقائك‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها‏.‏ ‏{‏وَقَتَلْتَ نَفْساً‏}‏ نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإِسرائيلي‏.‏ ‏{‏فنجيناك مِنَ الغم‏}‏ غم قتله خوفاً من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين‏.‏ ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ وابتليناك ابتلاء، أو أنواعاً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاّف، والمشي راجلاً على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره‏.‏ ‏{‏فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ‏}‏ لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين، ومدين على ثمان مراحل من مصر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ‏}‏ قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء‏.‏ ‏{‏يَا موسى‏}‏ كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واصطنعتك لِنَفْسِى‏}‏ واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى‏}‏ بمعجزاتي‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنِيَا‏}‏ ولا تفترا ولا تقصرا، وقرئ ‏{‏تِنيَا‏}‏ بكسر التاء‏.‏ ‏{‏فِى ذِكْرِي‏}‏ لا تنسياني حيثما تقلبتما‏.‏ وقيل في تبليغ ذكري والدعاء إليَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ أمر به أولاً موسى عليه الصلاة والسلام وحده وههنا إياه وأخاه فلا تكرير‏.‏ قيل أوحى إلى هرون أن يتلقى موسى‏.‏ وقيل سمع بمقبله فاستقبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً‏}‏ مثل ‏{‏هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى‏}‏ فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذراً أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما؛ أو احتراماً لما له من حق التربية عليك‏.‏ وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى‏:‏ أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة‏.‏ وقيل عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا يزول إلا بالموت‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى‏}‏ متعلق ب ‏{‏اذهبا‏}‏ أو «قولا» أي‏:‏ باشرا الأمر على رجائكما‏.‏ وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم، ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا‏}‏ أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة، من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فرط يسبق الخيل‏.‏ وقرئ ‏{‏يَفْرُطَ‏}‏ من أفرطته إذا حملته على العجلة، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعالجة بالعقاب، و‏{‏يَفْرُطَ‏}‏ من الإِفراط في الأذية‏.‏ ‏{‏أَوْ أَن يطغى‏}‏ أو أن يزداد طغياناً فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا‏}‏ بالحفظ والنصر‏.‏ ‏{‏أَسْمَعُ وأرى‏}‏ ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما، ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعاً ومبصراً، والحافظ إذا كان قادراً سميعاً بصيراً تم الحفظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ أطلقهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ‏}‏ بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام، وتعقيب الإِتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإِيمان، ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة‏.‏ ‏{‏قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة، وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإِشارة إلى وحدة الحجة وتعددها، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ‏}‏ ‏{‏فائت بِئَايَةٍ‏}‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَئ مُّبِينٍ‏}‏ ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏ وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، أو السلامة في الدارين لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى‏}‏ أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل، ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى‏}‏ أن بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به، ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة، وإنما خاطب الإِثنين وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه الأصل وهرون وزيره وتابعه، أو لأنه عرف أن له رتة ولأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه ويدل عليه قوله ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَيءٍ‏}‏ من الأنواع ‏{‏خَلْقَهُ‏}‏ صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه‏.‏ وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجاً‏.‏ وقرئ ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفاً أي‏:‏ أعطى كل مخلوق ما يصلحه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏ ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختياراً أو طبعاً، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإِطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله، ولذلك بهت الذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إِلاَّ صَرْفَ الكلام عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى‏}‏ فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى‏}‏ أي هو غيب لا يعلمه إلا هو وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به‏.‏ ‏{‏فِى كتاب‏}‏ مثبت في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون تمثيلاً لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة ويؤيده‏.‏ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى‏}‏ والضلال أن تخطئ الشيء في مكانه فلم تهتد إليه، والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك، وهما محالان على العالم بالذات، ويجوز أن يكون سؤاله دخلاً على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلها وتخصيصه ابعاضها بالصور والخواص المختلفة، بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها، والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم فيكون معنى الجواب‏:‏ أن علمه تعالى محيط بذلك كله وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 70‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً‏}‏ مرفوع صفة ل ‏{‏رَبّى‏}‏ أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح‏.‏ وقرأ الكوفيون هنا وفي «الزخرف» ‏{‏مهداً‏}‏ أي كالمهد تتمدونها، وهو مصدر سمي به، والباقون مهاداً وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الذي في «النبأ»‏.‏ ‏{‏وَسَلَكَ لَكُمْ سُبُلاً‏}‏ وجعل لكم فيها سبلاً بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً‏}‏ مطراً‏.‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى، تنبيهاً على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، وعلى هذا نظائره كقوله ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ ‏{‏أَم مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏أزواجا‏}‏ أصنافاً سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض‏.‏ ‏{‏مّن نبات‏}‏ بيان أو صفة لأزواجاً وكذلك‏:‏ ‏{‏شتى‏}‏ ويحتمل أن يكون صفة ل ‏{‏نَبَاتُ‏}‏ فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع، وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال‏:‏

‏{‏كُلُواْ وارعوا أنعامكم‏}‏ وهو حال من ضمير ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين ‏{‏كُلُواْ وارعوا‏}‏، والمعنى معديهما لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لأيات لأُوْلِى النهى‏}‏ لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية‏.‏

‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم‏.‏ ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ بالموت وتفكيك الأجزاء‏.‏ ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏ بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا‏}‏ بصرناه إياها أو عرفناه صحتها‏.‏ ‏{‏كُلَّهَا‏}‏ تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد، على أن المراد بآياتنا آيات معهودة وهي الآيات التسع المختصة بموسى، أو أنه عليه السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات ‏{‏فَكَذَّبَ‏}‏ موسى من فرط عناده‏.‏ ‏{‏وأبى‏}‏ الإِيمان والطاعة لعتوه‏.‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا‏}‏ أرض مصر‏.‏ ‏{‏بِسِحْرِكَ ياموسى‏}‏ هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كونه محقاً حتى خاف منه على ملكه، فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكاً مثله من أرضه‏.‏

‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ‏}‏ مثل سحرك‏.‏ ‏{‏فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَّوْعِدًا‏}‏ وعداً لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ‏}‏ فإن الإِخلاف لا يلائم الزمان والمكان وانتصاب‏.‏ ‏{‏مَكَاناً سُوًى‏}‏ بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف، أو بأنه بدل من ‏{‏مَّوْعِدًا‏}‏ على تقدير مكان مضاف إليه وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله‏.‏

‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏ من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول، أو وعدكم وعد يوم الزينة، وقرئ ‏{‏يوم‏}‏ بالنصب وهو ظاهر في أن المراد بهما المصدر، ومعنى سوى منتصفاً يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم‏:‏ قوم عدي في الشذوذ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بالضم، وقيل في «يَوْمُ الزينة» يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم عيد كان لهم في كل عام، وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار‏.‏ ‏{‏وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏ عطف على ال ‏{‏يوم‏}‏ أو ‏{‏الزينة‏}‏، وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير ال ‏{‏يوم‏}‏ أو ضمير ‏{‏فرعون‏}‏ على أن الخطاب لقومه‏.‏

‏{‏فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ ما يكاد به يعني السحرة وآلاتهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أتى‏}‏ الموعد‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بأن تدعوا آياته سحراً‏.‏ ‏{‏فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ‏}‏ فيهلككم ويستأصلكم، وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب بالضم من الاسحات وهو لغة نجد وتميم، والسحت لغة الحجاز‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى‏}‏ كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه‏.‏

‏{‏فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم‏:‏ ليس هذا من كلام السحرة‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏ بأن موسى إن غلبنا اتبعناه أو تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السر‏.‏ وقيل الضمير لفرعون وقومه وقوله‏:‏

‏{‏قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران‏}‏ تفسير ل ‏{‏أَسَرُّواْ النجوى‏}‏ كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذراً أن يغلبا فيتبعهما الناس، و‏{‏هذان‏}‏ اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديراً‏.‏ وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و‏{‏هاذان لساحران‏}‏ خبرها‏.‏ وقيل ‏{‏إِن‏}‏ بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ‏.‏ وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف، وقرأ أبو عمرو «أن هذين» وهو ظاهر، وابن كثير وحفص ‏{‏أَنْ هاذان‏}‏ على أنها هي المخففة واللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا‏.‏ ‏{‏يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ بالاستيلاء عليها‏.‏ ‏{‏بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى‏}‏ بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله ‏{‏إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ‏}‏ وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى ‏{‏أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم‏.‏

‏{‏فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ‏}‏ فأزمعوه واجعلوه مجمعاً عليه لا يتخلف عنه واحد منكم‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏فَأَجمعوا‏}‏ ويعضده قوله ‏{‏فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ والضمير في ‏{‏قَالُواْ‏}‏ إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ائتوا صَفّاً‏}‏ مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين‏.‏ قيل كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد منهم حبل عصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى‏}‏ فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض‏.‏

‏{‏قَالُواْ يَا موسى إَمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و‏{‏أن‏}‏ بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف، أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا‏.‏

‏{‏قَالَ بَلْ أَلْقُواْ‏}‏ مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم، وإسعافاً إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ، ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم، وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضاً ظرفية تستدعي متعلقاً ينصبها وجملة تضاف إليها، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى‏:‏ فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك‏.‏ وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح «تخيل» بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال، والعصي وإبدال أنها ‏{‏تسعى‏}‏ منه بدل الاشتمال، وقرئ ‏{‏يخيل‏}‏ بالياء على إسناده إلى الله تعالى، و«تخيل» بمعنى تتخيل‏.‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى‏}‏ فأضمر فيها خوفاً من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه‏.‏

‏{‏قُلْنَا لاَ تَخَفْ‏}‏ ما توهمت‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الأعلى‏}‏ تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكداً بالاستئناف، وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل‏.‏

‏{‏وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ‏}‏ أبهمه ولم يقل عصاك تحقيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة التي في يدك، أو تعظيماً لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثراً فألقه‏.‏ ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ‏}‏ تبتلعه بقدرة الله تعالى، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب‏.‏ وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستنئاف، وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُواْ‏}‏ أن الذي زوروا وافتعلوا‏.‏ ‏{‏كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏ وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «سحر» بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم‏:‏ علم فقه، وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحر‏}‏ أي هذا الجنس وتنكير الأول لتنكير المضاف كقول العجاج‏:‏

يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّت *** فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَما قَدْ مَدَّتْ

كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري‏.‏ ‏{‏حَيْثُ أتى‏}‏ حيث كان وأين أقبل‏.‏

‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً‏}‏ أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجداً لله توبة عما صنعوا وإعتاباً وتعظيماً لما رأوا‏.‏ ‏{‏قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هارون وموسى‏}‏ قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية، أو لأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع‏.‏ روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها‏.‏